شارك الموضوع على صفحات التواصل الاجتماعي

المتغيرات الأمنية الجديدة المؤثرة في أمن الدولة العراقية

د. عبدالله ناهض – مسؤول قسم الأبحاث والدراسات في ساسة
دكتوراه علوم سياسية في جامعة النهرين

تقديم
كما يعلم الكثير منا، أن العراق يعاني من مشكلات حقيقية على صعيد السياسة والاقتصاد والأمن، فضلًا عن المشكلات الاجتماعية وغيرها، ولا تزال الحكومات المتعاقبة عاجزة عن حلها لأسباب عدة، في مقدمتها الفساد الإداري والمالي، وهيمنة قوى السلاح على الدولة، ولا أريد الإسهاب في هذه الموضوعات، لأنني لن آتي بالجديد على هذه الأصعدة، فالكثير من الباحثين خاضوا فيها ووضعوا الحلول التي يرونها مناسبة، ويبقى الخلل في الاستجابة. ما تتحدث بشأنه هذه المقالة أو تركز عليه، المخاطر الوجودية الحقيقية المتزايدة في العراق، وتأثيرها هنا في غاية الخطورة، كونها تؤثر على وجود الدولة، والإنسان نفسه الذي يقطن الجغرافيا العراقية، المقصود هنا مخاطر التغيرات المناخية، والتلوث البيئي، والجفاف، وانخفاض مناسيب المياه بشكل كبير، وتصحر الأراضي، وزيادة نسب العطش.

وهذا الكلام ليس حديثًا إنشائيًا، بل هو واقع موجود يلمسه العراقيون جميعًا، باختلاف نسب التأثير بين الشمال والجنوب والوسط، إذ في المناطق الجنوبية والوسطى تأثيراتها بائنة بشكل أكبر. بالتالي تنطلق الدراسة من بعض الأسئلة المهمة وهي: كيف تؤثر هذه المخاطر على الأمن العراقي؟ وكيف تعاملت الدولة العراقية معها؟ وما آثارها السلبية على المجتمع والدولة؟، وهل هنالك حلول ممكنة لها؟، هذا ما أحاول الإجابة عنه في الأسطر القادمة من المقالة.

حرب التلوث والتغير المناخي
يقع العراق اليوم، في مقدمة أكبر البلدان سخونة وتلوثًا في العالم، إذ تتجاوز درجات الحرارة فيه أيام فصل الصيف نصف درجة الغليان بـ (50) درجة مئوية، أما من ناحية تلوث الهواء والمناخ فهو في صدارة البلدان بهذا الشأن الخطير، وتعقيبًا على هذا الأمر حذر المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك أثناء زيارته للعراق، من خطورة ما يعانيه هذا البلد على صعيد التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق قائلًا إنّ “ارتفاع درجات الحرارة والجفاف وفقدان التنوع البيئي، أمور باتت واقعًا”. هي بمنزلة إنذار إلى العراق والعالم أجمع، مضيفًا: “حينما نشاهد أوضاع تلك المجتمعات، فنحن نشاهد مستقبلنا”. تعبير حقيقي عاكس لما يعانيه العراق فعليًا من أزمة حقيقة لا تختلف عن الحرب، نعم، البلاد والمجتمع تواجه حربًا طرفها المناخ والاحتباس الحراري والتلوث، والدولة والمجتمع يعيشون حالة من العجز شبه التام، أمام هذه المخاطر الوجودية، وعدم إدراك حقيقي لهذه لمدى هذه الخطورة، ولا توجد خطوات حقيقية لمواجهتها، بالتالي تتراكم الخسائر في هذه الحرب، والوقت ليس في صالح الجميع.

والأسباب الرئيسة، التي أدت إلى ازدياد نسبة التلوث، وارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير في العراق؛ تعود بنسبة كبيرة إلى تضاؤل المساحات الخضراء، سواءً بفعل شحة المياه، أو لأن الكثير من الأراضي الزراعية تعرضت للتجريف، ليتمّ تحويلها إلى مناطق سكنية، إذ بحسب وزارة التخطيط العراقية فإنّ العراق يضم نحو (4679) تجمعًا سكنيًا عشوائيًا، بغداد لوحدها تضم أكثر من (1000) وحدة عشوائية، يقطن في كل هذه العشوائيات نحو (3,750) مليون نسمة، خطورة هذه العشوائيات متعددة الجوانب، فهي ما عدا كونها تقام على أراض في الغالب ذات صنف زراعي، وبالتالي انحسار المساحات الخضراء، أو أنها ربما تعود إلى الدولة مخطط، لها لأن تقام عليها مشاريع عامة مثل المستشفيات والمدارس والجامعات.. الخ، قلت ما عدا ذلك، فهي تؤدي إلى الضغط على شبكات الصرف الصحي والمياه وبقية الخدمات العامة، لأنها بالأساس لم تخطط بشكل نظامي، فضلاً عن تأثيراتها السلبية على صعيد زيادة نسب التلوث والتصحر. وبالتالي ارتفاع نسب درجات الحرارة، فضلاً عن انعكاساتها الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وحتى الأمنية.

وأيضًا، من الأسباب الأخرى المهمة، التلوث الصادر من محطات الكهرباء، وعوادم السيارات، والمولدات الكهربائية، والآبار النفطية، الأمر الذي انعكس بالسلب على جودة الهواء والمياه والتربة في العراق، وهو ما يؤدي إلى أضرار تشمل الجميع وفي مقدمتها صحة البشر، والقضاء على التنوع البيولوجي، والحيواني، والزراعي. والأمر الخطير الآخر، هو ارتفاع نسب التلوث في مياه الأنهار، وذلك بحسب بيانات وزارة البيئة العراقية، إذ تبلغ نسبة تلوثها بلغت (90%)، بسبب أن مياه الصرف الصحي في العاصمة كلها تصب في النهر من دون أية معالجة مبينةً الوزارة، أنّ البنى التحتية للعاصمة بغداد لا تستوعب سوى (3-4) مليون نسمة، بينما يسكنها أكثر من (8) ملايين نسمة، وهو ما ينعكس بالسلب على جودة الحياة في بغداد والعراق عمومًا.

العراق من وادي النهرين إلى وادي الجفاف
بالانتقال إلى موضوعة المياه، نجد أن العراق بات يعاني بشكل كبير على هذا الصعيد، ومشاهدة انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات لا تخفى على أحد، وأسباب ذلك عدة على رأسها: عدم إطلاق حصته المائية الحقيقية من دول المنبع وهي إيران وتركيا، فالعراق بحسب كلام المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية، خالد الشمال، يعتمد بنسبة (70%) على دول المنبع في تأمين المياه، (50%) من تركيا و(15%) من إيران و(5%) من سوريا، وبين أن دول المنبع تطلق (181) متر مكعب في الثانية بينما نطلق في العراق (300) متر مكعب في الثانية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الضغط على المخزون المائي الاستراتيجي، وذلك عبر تعويض النقص من هذا المخزون، مشيرًا إلى أنّ “العراق يسعى إلى زيادة إطلاق المياه إلى نحو (500) متر مكعب في الثانية بالنسبة لنهر دجلة و (400) متر مكعب في الثانية بالنسبة لنهر الفرات.

وفي سياق متصل لا ينال العراق من حصته المائية إلا نحو (30٪) أو أقل من ذلك، الأمر الذي انعكس سلبًا على الأراضي الزراعية، ومياه الشرب، وتهديد الثروة الحيوانية، وزيادة نسب الهجرة من المناطق التي وصلتها تأثيرات الجفاف والعطش مثل المناطق الجنوبية، وانخفاض كبير في المخزون الاستراتيجي المائي العراقي، إذ فقد العراق نحو (53) مليار متر مكعب من هذا المخزون، لينخفض إلى نحو (7,5) مليار متر مكعب، مما أدى إلى أن يكون العراق خامس دولة في العالم من ناحية تأثيرات شدة الجفاف، وذلك بالاستناد إلى مقياس مؤشر الجفاف العالمي الذي يتكون من خمس درجات، إذ أشار المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية العراقية، خالد الشمال، إلى أنّ العراق يقع بين رقمي ثلاثة وأربعة من المؤشر، وهو أمر في غاية الخطورة. ومن الأسباب الأخرى التبخر خلال فصل الصيف، إذ لفت وزير الموارد المائية عون ذياب، إلى أنّ العراق يفقد خلال ثلاثة أشهر الصيفية من أربعة ونصف إلى خمسة مليار متر مكعب.

والسبب الآخر، بدائية السياسات المائية في العراق، ولا توجد آليات ووسائل متقدمة في الري الزراعي، تعمل على ترشيد استهلاك المياه، واستخدامها بطريقة متطورة تحفظها من الهدر، بدليل، وبحسب كلام المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد، خالد الشمال، فإنّ القطاع الزراعي يستهلك نحو (75%) من الماء الخام، وأغلبنا يعلم أنّ طرق السقي في العراق، لا زالت بدائية تؤدي إلى هدر المياه، ويوجد إهمال واضح من قبل عامة الناس في هذا الشأن المهم والخطير في الوقت ذاته.


المتغيرات الأمنية الجديدة المؤثرة في أمن الدولة العراقية
البحوث | منظمة ساسة / نوفمبر 8, 2023
د. عبدالله ناهض – مسؤول قسم الأبحاث والدراسات في ساسة
دكتوراه علوم سياسية في جامعة النهرين


تقديم
كما يعلم الكثير منا، أن العراق يعاني من مشكلات حقيقية على صعيد السياسة والاقتصاد والأمن، فضلًا عن المشكلات الاجتماعية وغيرها، ولا تزال الحكومات المتعاقبة عاجزة عن حلها لأسباب عدة، في مقدمتها الفساد الإداري والمالي، وهيمنة قوى السلاح على الدولة، ولا أريد الإسهاب في هذه الموضوعات، لأنني لن آتي بالجديد على هذه الأصعدة، فالكثير من الباحثين خاضوا فيها ووضعوا الحلول التي يرونها مناسبة، ويبقى الخلل في الاستجابة. ما تتحدث بشأنه هذه المقالة أو تركز عليه، المخاطر الوجودية الحقيقية المتزايدة في العراق، وتأثيرها هنا في غاية الخطورة، كونها تؤثر على وجود الدولة، والإنسان نفسه الذي يقطن الجغرافيا العراقية، المقصود هنا مخاطر التغيرات المناخية، والتلوث البيئي، والجفاف، وانخفاض مناسيب المياه بشكل كبير، وتصحر الأراضي، وزيادة نسب العطش.

العراق يواجه حربًا طرفها المناخ والاحتباس الحراري والتلوث

وهذا الكلام ليس حديثًا إنشائيًا، بل هو واقع موجود يلمسه العراقيون جميعًا، باختلاف نسب التأثير بين الشمال والجنوب والوسط، إذ في المناطق الجنوبية والوسطى تأثيراتها بائنة بشكل أكبر. بالتالي تنطلق الدراسة من بعض الأسئلة المهمة وهي: كيف تؤثر هذه المخاطر على الأمن العراقي؟ وكيف تعاملت الدولة العراقية معها؟ وما آثارها السلبية على المجتمع والدولة؟، وهل هنالك حلول ممكنة لها؟، هذا ما أحاول الإجابة عنه في الأسطر القادمة من المقالة.

حرب التلوث والتغير المناخي
يقع العراق اليوم، في مقدمة أكبر البلدان سخونة وتلوثًا في العالم، إذ تتجاوز درجات الحرارة فيه أيام فصل الصيف نصف درجة الغليان بـ (50) درجة مئوية، أما من ناحية تلوث الهواء والمناخ فهو في صدارة البلدان بهذا الشأن الخطير، وتعقيبًا على هذا الأمر حذر المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك أثناء زيارته للعراق، من خطورة ما يعانيه هذا البلد على صعيد التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق قائلًا إنّ “ارتفاع درجات الحرارة والجفاف وفقدان التنوع البيئي، أمور باتت واقعًا”. هي بمنزلة إنذار إلى العراق والعالم أجمع، مضيفًا: “حينما نشاهد أوضاع تلك المجتمعات، فنحن نشاهد مستقبلنا”. تعبير حقيقي عاكس لما يعانيه العراق فعليًا من أزمة حقيقة لا تختلف عن الحرب، نعم، البلاد والمجتمع تواجه حربًا طرفها المناخ والاحتباس الحراري والتلوث، والدولة والمجتمع يعيشون حالة من العجز شبه التام، أمام هذه المخاطر الوجودية، وعدم إدراك حقيقي لهذه لمدى هذه الخطورة، ولا توجد خطوات حقيقية لمواجهتها، بالتالي تتراكم الخسائر في هذه الحرب، والوقت ليس في صالح الجميع.

جسر الشهداء في بغداد، لا يمكن رؤية بقية مناطق العاصمة العراقية بسبب ضباب الغبار، مسببة غلق المدارس وإجبار الآلاف على طلب المساعدة الطبية. المصدر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

والأسباب الرئيسة، التي أدت إلى ازدياد نسبة التلوث، وارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير في العراق؛ تعود بنسبة كبيرة إلى تضاؤل المساحات الخضراء، سواءً بفعل شحة المياه، أو لأن الكثير من الأراضي الزراعية تعرضت للتجريف، ليتمّ تحويلها إلى مناطق سكنية، إذ بحسب وزارة التخطيط العراقية فإنّ العراق يضم نحو (4679) تجمعًا سكنيًا عشوائيًا، بغداد لوحدها تضم أكثر من (1000) وحدة عشوائية، يقطن في كل هذه العشوائيات نحو (3,750) مليون نسمة، خطورة هذه العشوائيات متعددة الجوانب، فهي ما عدا كونها تقام على أراض في الغالب ذات صنف زراعي، وبالتالي انحسار المساحات الخضراء، أو أنها ربما تعود إلى الدولة مخطط، لها لأن تقام عليها مشاريع عامة مثل المستشفيات والمدارس والجامعات.. الخ، قلت ما عدا ذلك، فهي تؤدي إلى الضغط على شبكات الصرف الصحي والمياه وبقية الخدمات العامة، لأنها بالأساس لم تخطط بشكل نظامي، فضلاً عن تأثيراتها السلبية على صعيد زيادة نسب التلوث والتصحر. وبالتالي ارتفاع نسب درجات الحرارة، فضلاً عن انعكاساتها الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وحتى الأمنية.

وأيضًا، من الأسباب الأخرى المهمة، التلوث الصادر من محطات الكهرباء، وعوادم السيارات، والمولدات الكهربائية، والآبار النفطية، الأمر الذي انعكس بالسلب على جودة الهواء والمياه والتربة في العراق، وهو ما يؤدي إلى أضرار تشمل الجميع وفي مقدمتها صحة البشر، والقضاء على التنوع البيولوجي، والحيواني، والزراعي. والأمر الخطير الآخر، هو ارتفاع نسب التلوث في مياه الأنهار، وذلك بحسب بيانات وزارة البيئة العراقية، إذ تبلغ نسبة تلوثها بلغت (90%)، بسبب أن مياه الصرف الصحي في العاصمة كلها تصب في النهر من دون أية معالجة مبينةً الوزارة، أنّ البنى التحتية للعاصمة بغداد لا تستوعب سوى (3-4) مليون نسمة، بينما يسكنها أكثر من (8) ملايين نسمة، وهو ما ينعكس بالسلب على جودة الحياة في بغداد والعراق عمومًا.


العراق من وادي النهرين إلى وادي الجفاف
بالانتقال إلى موضوعة المياه، نجد أن العراق بات يعاني بشكل كبير على هذا الصعيد، ومشاهدة انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات لا تخفى على أحد، وأسباب ذلك عدة على رأسها: عدم إطلاق حصته المائية الحقيقية من دول المنبع وهي إيران وتركيا، فالعراق بحسب كلام المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية، خالد الشمال، يعتمد بنسبة (70%) على دول المنبع في تأمين المياه، (50%) من تركيا و(15%) من إيران و(5%) من سوريا، وبين أن دول المنبع تطلق (181) متر مكعب في الثانية بينما نطلق في العراق (300) متر مكعب في الثانية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الضغط على المخزون المائي الاستراتيجي، وذلك عبر تعويض النقص من هذا المخزون، مشيرًا إلى أنّ “العراق يسعى إلى زيادة إطلاق المياه إلى نحو (500) متر مكعب في الثانية بالنسبة لنهر دجلة و (400) متر مكعب في الثانية بالنسبة لنهر الفرات.

وفي سياق متصل لا ينال العراق من حصته المائية إلا نحو (30٪) أو أقل من ذلك، الأمر الذي انعكس سلبًا على الأراضي الزراعية، ومياه الشرب، وتهديد الثروة الحيوانية، وزيادة نسب الهجرة من المناطق التي وصلتها تأثيرات الجفاف والعطش مثل المناطق الجنوبية، وانخفاض كبير في المخزون الاستراتيجي المائي العراقي، إذ فقد العراق نحو (53) مليار متر مكعب من هذا المخزون، لينخفض إلى نحو (7,5) مليار متر مكعب، مما أدى إلى أن يكون العراق خامس دولة في العالم من ناحية تأثيرات شدة الجفاف، وذلك بالاستناد إلى مقياس مؤشر الجفاف العالمي الذي يتكون من خمس درجات، إذ أشار المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية العراقية، خالد الشمال، إلى أنّ العراق يقع بين رقمي ثلاثة وأربعة من المؤشر، وهو أمر في غاية الخطورة. ومن الأسباب الأخرى التبخر خلال فصل الصيف، إذ لفت وزير الموارد المائية عون ذياب، إلى أنّ العراق يفقد خلال ثلاثة أشهر الصيفية من أربعة ونصف إلى خمسة مليار متر مكعب.

والسبب الآخر، بدائية السياسات المائية في العراق، ولا توجد آليات ووسائل متقدمة في الري الزراعي، تعمل على ترشيد استهلاك المياه، واستخدامها بطريقة متطورة تحفظها من الهدر، بدليل، وبحسب كلام المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد، خالد الشمال، فإنّ القطاع الزراعي يستهلك نحو (75%) من الماء الخام، وأغلبنا يعلم أنّ طرق السقي في العراق، لا زالت بدائية تؤدي إلى هدر المياه، ويوجد إهمال واضح من قبل عامة الناس في هذا الشأن المهم والخطير في الوقت ذاته.

تهديدات الجفاف ستؤدي إلى نشوب المزيد من الصراعات يكون محورها البحث عن الماء والأرض الصالحة للعيش البشري

ومن الأسباب الأخرى، وقد يكون هو الأهم، انشغال صناع القرار العراقي بصراعات جانبية، يفترض تحييدها لصالح هذا الخطر الذي يهدد وجود العراق نفسه، وهو ما تستثمره دول المنبع، أي أنها تستثمر في الانقسامات والصراعات الداخلية، بما يؤدي إلى حرفها عن مطالبتها بحقوقها السيادية التي تتعلق بالحق المائي للعراق. وكما يعلم بعض المختصين في العلوم السياسية ومن هم يتفقون مع هذا الرأي وأنا من بينهم؛ أن السياسة الخارجية انعكاس للداخل، فكلما كانت السياسة الداخلية قوية ومتماسكة، أصبحت السياسة الخارجية أقوى وأكثر تماسكا فضلاً عن نيلها الاحترام والهيبة من قبل الدول الأخرى. ومن هذا المنطلق، غالبًا ما سيكون موقف المفاوض العراقي مع دول المنبع ضعيفًا، بحكم أن هذه الدول تستثمر في الضعف الداخلي العراقي، مما ينعكس سلبًا على مواقف البلاد الخارجية ومصالحها الاستراتيجية.

أهم ما كان يميز الأرض العراقية عبر التاريخ عاملين في غاية الأهمية هما: المياه الوفيرة، والأراضي الزراعية الخصبة، وبسببهما قامت أهم المدن والدول التاريخية عليها مثل بابل وآشور والدولة العباسية. اليوم بدأنا نفقد أهم ما ميز هذه الأرض أي الماء والزراعة، الأمر الذي يهدد وجود الإنسان نفسه والكائنات الحية الأخرى، ومن ثم بقاء الدولة، ولهذا، فإنّ هذه التهديدات ستؤدي إلى نشوب المزيد من الصراعات، يكون محورها البحث عن الماء والأرض الصالحة للعيش البشري، وقد تكون المناطق الشمالية مرشحة لهذا الدور في المستقبل القريب.

سيتحول العراق ـ إن لم يتدارك القائمون على أمره الوضع الخطير المحدق به ـ من جغرافيا عرفت تاريخيًا بأرض وادي الرافدين، إلى أرض وادي الجفاف والتلوث، ومن كونها أرض صالحة خصبة للعيش البشري، إلى أرض جرداء لا تصلح حتى للعيش الحيواني.

تواجه الدولة العراقية خطرًا حقيقيًا يهدد بقائها، فإذا ما علمنا أن أهم ركن تشتغل عليه الدولة هو، ضمان البقاء وقدرتها في الحفاظ عليه، فإننا نجد أنّ العراق بدولته ومجتمعه إلى حد اللحظة، عاجزان عن إدراك عظم هذا التهديد، ويتعاملان معه بجهل كبير.

لم تعد المخاطر الأمنية تقليدية كما هو في السابق، أي تلك التي كانت تفهم بأنها قد تأتي من دولة معادية، أو جماعات مسحلة دون الدولة، عبر شنها للحرب ضد دولة أخرى، أو محاولتها لزعزعة استقرارها الداخلي، أو قد تأتي من جماعات مسلحة في داخل الدولة، تعمل على تهديد سلامتها وأمنها؛ بل دخلت في السنوات القليلة الماضية، متغيرات أخرى لا تقل خطورة عن التهديدات الأمنية المعروفة، وتتمثل في تهديدات التغيرات المناخية، والجفاف، والتلوث، وانحسار المياه الصالحة للاستخدام البشري، وما أن توجه الدولة مثل هذه التهديدات كما هو حاصل مع العراق، فإنّ ذلك لا يقل عن حالة إعلان الحرب أو خوضها، هنا أنت لا تتعامل مع عدو بشري أو مادي، بل مع الطبيعة التي تنتفض ضد السياسات الخاطئة لبعض الدول، والتي تنعكس بالسلب عليها. إن وجود الدولة لم يعد يتهدد من دولة أخرى، بل من هذه الفواعل الجديدة التي دخلت إلى قائمة المخاطر الأمنية التي على الدولة مواجهتها.

الخاتمة
يمكن القول، على صعيد أزمة المياه، إن أسبابها مشتركة، ولا يمكن إلقاء اللوم على دول المنبع فقط، فالسياسة المائية العراقية الداخلية، وطرق استهلاك المياه سواء من قبل المزارعين، أو من عامة الناس، لا تزال بدائية، وغير مسؤولة في الوقت نفسه، تجاه خطر يهدد الجميع، ألا وهو خطر الجفاف والعطش. فضلاً عن ذلك، أن العراق منذ أكثر من أربعة عقود منشغل بأزمات عدة؛ حرب مع إيران مدتها ثمان سنوات، وغزوه للكويت وما أعقبه من تبعات أثرت بشكل كبير على مستقبل الدولة العراقية أهمها الحصار الدولي، والاحتلال الأمريكي، وغيرها من الأزمات شديدة الخطورة، أدت به إلى إهمال هكذا ملفات مهمة، ومن ثم، فإنّ دول المنبع استثمرت هذه العوامل لصالحها، وعلى حساب الحقوق العراقية المائية.

من جهة أخرى، يفترض بدول المنبع أن تعي أن ارتدادات الجفاف والتصحر في العراق، لن تقتصر عليه وحده، بل أن نتائجها الأمنية ـ إذا صح الوصف ـ سترتد عليها، على أساس أن المخاطر الأمنية في دولة ما غالبًا ما تنعكس على المنطقة المحيطة بها، وهنا إن صار جزءًا من العراق يعاني التصحر والجفاف، فإنّ الذين يقطنونه يبدأون بالبحث عن ملاذات أخرى تقيهم هذه المخاطر، وقد تكون الهجرة إلى دول المنبع المجاورة إحدى الخيارات، فمثلًا أن الحرب في سوريا، والحرب ضد “داعش” في العراق، لم تقتصر نتائجهما على كلتا الدولتين، بل شملت الشرق الأوسط، فضلاً عن القارة الأوروبية التي عانت من مسألة الهجرة غير الشرعية، والمخاطر الأمنية الكبيرة القريبة منها، بالتالي أن الحلول يفترض أن تكون جماعية، وأن يتم العمل بمبدأ تقاسم الضرر والمنفعة، لا أن يتم إلقاء جميع الضرر على العراق وحده بما يتعلق بالمياه.

على صعيد متصل، وبحسب المخاطر الجديدة، أرى من المهم أن تكون الأولوية في البرنامج الحكومي لوزارات الموارد المائية، والزراعة، والبيئة، وبقية الجهات الساندة، على أساس أن أهم التهديدات في الوقت الحاضر التي تواجه العراق تتعلق بالماء والزراعة والبيئة، ولا يفترض أن يظل الجزء الأكبر من الاهتمام يذهب للجنبة العسكرية والأمنية، على أساس أن خطر “داعش” انتهى، بالتالي أن الأولويات يفترض تغييرها بحسب الظروف وما يستجد فيها، واليوم نعاني من مخاطر جديدة غير تلك التي كانت قبل ثمان سنوات، تتعلق بالجفاف، والعطش، والتلوث البيئي، والتصحر.

المصدر : منظمة ساسة


شارك الموضوع على صفحات التواصل الاجتماعي

اترك تعليقاً