التغيرات المناخية والتلوث يحرمان الصابئة من ممارسة الطقوس الدينية
مرتضى الحدود و نغم مكي
تقف ريمان الكحيلي أمام شط الطويسة بالبصرة وهي ترتدي “الرستة” -لباس ديني أبيض في إشارة إلى طهارة الروح من الآثام- لممارسة “التعميد”؛ وهو طقس ديني لأبناء الصابئة يتمثل في الغطس بكامل الجسد في النهر.
ورغم أن الفتاة العشرينية دأبت على ممارسة هذا الطقس في نهر البصرة، إلا أنها تعتقد أن هذه هي المرة الأخيرة التي تمارس فيها “التعميد” في الشط.
وجدت الكحيلي نفسها مجبرة على تغيير مكان التعميد السابق في شط الطويسة الواقع أمام المندي بمنطقة الطويسة؛ وهو مكان لأداء مناسك العبادة، وإقامة المراسيم الدينية للصابئة، ليكون في شط العرب تحت الجسر الإيطالي نتيجة جفاف الشط الذي كان يعد المكان الرئيس لممارسة طقوسهم، بعد أن أصبحت إقامة طقوسهم هناك سببا في إصابتهم بالمشكلات الصحية نتيجة التلوث، وعدم جريانه بما فيه الكفاية لأداء الطقوس.
ترتبط طقوس الديانة الصابئية ارتباطًا وثيقا بالمياه، وتقوم أركانها على سريانه في الأنهار لأداء العبادات.
أخلت التغيرات المناخية بهذا؛ فيقيد الجفاف وما تبعه من شح في المياه وتلوثها من قدرة أبناء الديانة من ممارسة طقوسهم، والإيفاء باحتياجاتهم المعيشية الأساسية، في ظل تلكؤ حكومي في إيقاف مصادر التلوث ومعالجة شح المياه.
التلوث يحرم الصابئة من طقوسهم
تلقي آثار تلوث المياه بظلالها على الصابئة، وبالأخص النساء منهم. تجلس أسماء خيري بانتظار ممارسة طقس التعميد، فيما ينتابها الخوف من احتمالية الإصابة بأمراض جلدية، إذا ما استمر تلوث المياه. تقول أسماء: “هذا الانخفاض دفع بعض الصابئة إلى الهجرة نحو محافظة ميسان قبل عامين تقريبا؛ فالمياه أفضل نسبيا من البصرة والأنهار القريبة من المندي قليلة التلوث”.
تقول رئيسة شؤون النساء المندائية في محافظة البصرة أميرة خلف إن انخفاض مناسيب المياه في شط العرب يؤدي إلى ارتفاع الأملاح، وهو ما يتسبب في التسمم والإصابة بالأمراض الجلدية، خاصة أن طقس التعميد يقوم على الشرب من المياه، ولا توجد وسيلة أخرى لأداء طقس التعميد سوى مياه النهر.
وتشير إلى أن آخر مرة تم فيها كري شط العرب كان في العام 2000.
والكري إجراء يساعد على الحفاظ على نقاوة المياه، وثبات مستوى الأملاح، وإزالة الطحالب.
تلوث الماء يهدد البقاء
يرى ناشطون أن المياه الجارية تعد عنصرا أساسيا ومهما لممارسة الصابئة طقوسهم الدينية الرسمية، فضلا عن الاحتياجات اليومية، وتلوثه يمثل عنصر تهديد لاستمرار الطقوس، ويدفع بالصابئة إلى النزوح الداخلي.
يوضح الناشط في مجال حقوق الإنسان أحمد الكلمشي أن الصابئة لديهم ارتباط روحي بالمياه الجارية، بما تمثله من أهمية في ممارسة الطقوس والممارسات الدينية، ومنذ القدم ارتبط وجودهم بالمناطق المحاذية للأنهار والجداول العذبة، ويسلبهم تلوث المياه وشحتها حقهم في ممارسات طقوس الديانة.
الكلمشي يرى أن المياه تكتسب أهمية خاصة في أغلب الديانات، لأنها تطهر الحي والميت. هذا بجانب أهميتها الحياتية للإنسان، ما يهدد تلوثها وقلتها بقاء الإنسان.
وترتكز الديانة الصابئية على خمسة أركان دينية أساسية؛ هي: التوحيد والصلاة والتعميد والصوم والزكاة.
يمارس المندائيون ثلاث صلوات في اليوم الواحد؛ صلاة عند بزوغ الشمس، والثانية عند تعامد الشمس، والاخيرة قبل المغيب، وكل صلاة يسبقها الوضوء، ويشترط في الوضوء وجود الماء الجاري.
فيما يمثل “التعميد” الهوية الروحية للفرد المندائي، وعهد بين المندائي وخالقه بالالتزام بالشرائع المندائية، وواجب على كل فرد التعميد بأيام الأحد من كل أسبوع، وفي المناسبات الدينية. ويشترط ممارسته في المياه الجارية.
ينوه الزعيم الديني للديانة المندائية في البصرة مازن النايف، بمدى تأثر الديانة بانخفاض المياه، ويقارن الوضع الحالي بما كان عليه في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حينها كانت مياه النهر خالية من الشوائب والبكتريا الضارة، إلا أن الحروب وتدهور الأوضاع في البلد أثرا سلبا في المياه، فضلا عن رمي مخلفات الصرف الصحي بشكل مباشر في شط العرب. ويكمل النايف أن “المعاناة التي نواجهها في أداء الطقوس لا تقتصر على تلوث المياه وشحتها، بل فاقم من الأمر رمي مخلفات القوارب من الوقود والزيوت في المياه، وكذا صرف مخلفات المطاعم والبيوت السكنية فيها، فظهرت بقع سوداء على سطحها. وهذا التلوث دفعنا نحو بناء حوض أطلقنا عليه اسم الشريعة، وأصبحنا نؤدي بداخله الطقوس، ونحاول أن يدخله الماء الصافي للحفاظ على المتعمدين في النهر”. وكشف النايف عن تقديم شكوى شفهية للحكومة قبل نحو سنة، تطالب بضرورة توفير مياه جارية للصابئة لممارسة طقوسهم من دون عائق، إلا أنهم لم يتلقوا أي رد.
المياه الآسنة تهجر الصابئة
أنشأ المندي الحالي في سبعينيات القرن الماضي بمنطقة الطويسة، وكانت الطقوس الدينية تمارس فيه عندما كان شط الطويسة عذبا، أما اليوم فقد أصابه الجفاف، ولحق به التلوث بعد ربط خطوط الصرف الصحي به، وهو ما دفع أبناء الصابئة إلى البحث عن طرق بديلة؛ تتمثل في إنشاء حوض مائي داخل المندي، وربطه بالنهر -عندما كان الماء جاريا- لممارسة طقوسهم داخله، ولكن الجفاف اضطرهم الآن إلى ممارسة الطقوس قرب الجسر الإيطالي عند شط العرب.
وتم استقطاع جزء من جرف شط العرب كمكان تعميد دائم، وتمت إحاطته بمشبك معدني؛ كي يمنع العوالق الكبيرة من التسرب إلى مساحة التعميد، وليقلل نسبيا من مستوى التلوث. وتبقى ممارسة طقوس الصابئة خاضعة لمستوى مناسيب مياه شط العرب؛ فقد يتعذر إجراء التعميد إذا ما انخفض المنسوب المائي، نتيجة حجم تلوث المياه بزيوت الزوارق النهرية ووقودها الملقى في المياه، وكذا مياه الصرف الصحي التي تكون طاغية وتتجمع عند الشاطئ، ما يضطرهم إلى الرجوع إلى حوض المندي في منطقة الطويسة.
الشركة العامة لموانئ العراق نظمت -بدورها- في الأشهر الماضية حملة لرفع الغوارق من شط العرب، بهدف تنظيم قنوات الممر الملاحي وتنقيته؛ حفاظا على الثروة السمكية والبيئة البحرية، وتعود هذه الغوارق إلى حقبة الثمانينيات حينما تعرضت للتدمير خلال الحرب العراقية الإيرانية.
ووفق زعيم الديانة الصابئية في العراق الشيخ ستار الحلو، فإن تلوث المياه أثر بشكل كبير في تدهور صحة الصابئة، لشربهم منها.
ويكمن الحل -من وجهة نظر الحلو- في تحرك وزارة الموارد المائية لكري الأنهار في بغداد، لتقليل نسب التلوث لأجل ممارسة الطقوس الدينية بسلامة، والثاني هو التحرك للتفاوض مع دول المنبع للوصول إلى اتفاقية مشتركة، لزيادة الإطلاقات المائية، وهذا لمصلحة العراقيين ككل وليس الصابئة فحسب.
أكد الحلو أنهم تواصلوا مرارا وتكرارا مع وزارة الموارد المائية لكري الأنهار، لكن من دون حل يذكر حتى اليوم.
وفي تصريح صحفي سابق للحلو، انخفضت أعداد أتباع الديانة الصابئية في العراق؛ فبعدما كانت أعدادهم 75 ألف شخص قبل عام 2003، تتراوح أعدادهم الآن ما بين 15 و20 ألف شخص.
إرباك السياحة
يقول المتخصص بتكنولوجيا المياه حسين فالح عبد الكريم، إن تلوث المياه يؤثر تأثيرا سلبيا في السياحة، فضلا عن أنه يؤدي إلى نفوق الكائنات الحية، وانعدام النمو البيولوجي.
يشير مدير دائرة حماية وتحسين البيئة في المنطقة الجنوبية محسن عزيز إلى أن نسب تركيز الأملاح في شط العرب ما زالت تتراوح ما بين 2000 إلى 4000 جزء بالمليون، ولكن النسبة أصبحت أقل من السنوات السابقة، نتيجة الإطلاقات المائية التي تدفع اللسان الملحي، فشط العرب يتأثر بشكل واضح بظاهرتي المد والجزر؛ لذا نسب الأملاح فيه أعلى بكثير من نهري دجلة والفرات.
ويضيف أن نسب التلوث فيه متفاوتة بسبب تصريف المخلفات السائلة من مياه الصرف الصحي والمنازل، بجانب مشكلة الغوارق من السفن والزوارق داخل الشط، وما تسببه من تسرب الزيوت إلى النهر.
وهذا كله يفاقم الوضع البيئي في النهر، ولكن -والكلام على لسان عزيز- تجرى الآن عملية تنسيق مع شركة الموانئ العراقية لرفع الملوثات، وبالتالي الإسهام في تقليل الملوثات في النهر.
الحق في البيئة وحرية العبادة
تنص المادة ٣٣ من الدستور العراقي أن لكل مواطن الحق في العيش في بيئة صحية نظيفة. وتنص المادة الثانية من الدستور العراقي على أنه “يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة، والممارسة الدينية كالمسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين”.
ويركز الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة، على توفير المياه النظيفة والمرافق الصحية لكل إنسان.
وهو ما لم يتوفر لأبناء الصابئة، ما منعهم من ممارسة طقوسهم الدينية وسط بيئة نظيفة خالية من التلوث.
ويوضح رئيس مجلس شؤون الصابئة المندائية في ذي قار الدكتور سامر نعيم، أن الشح المائي دفع جميع الصابئة المندائية بعموم العراق إلى استخدام أحواض مائية تتصل بالأنهار عبر أنابيب تصل إلى عمق النهر، لضمان ممارسة طقوسهم.
ويضيف بأن الشح المائي يمنع نحو 1500 صابئي في المحافظة من ممارسة الطقوس الدينية.
يبين المتحدث الرسمي باسم ديوان أوقاف الديانات المسيحية والصابئة والايزيدية الأب مارتن هرمز، أن دورهم ينحصر في رعاية الأوقاف، أما المسائل الدينية وممارسة الطقوس تعود إلى الرئاسات الروحية المتبنية للديانة، ولكن إذا تم تقديم طلب إلى الأوقاف للتدخل لإيجاد حل للملف المائي، كي يتيح لهم ممارسة طقوسهم الدينية بشكل أفضل، فالأوقاف لن تتأخر عن تقديم مخاطبات رسمية للجهات المسؤولة، لحل الأمر.
ويتابع هرمز أن هذا الملف أصبح يشكل تهديدا للجميع، وأن الحكومة العراقية جادة لإيجاد حل لشح المياه، وتسعى لعقد اتفاقات مع تركيا وإيران، لضمان إطلاقات مائية تعيد مناسيب المياه لطبيعتها في الأنهار.
معاناة صابئة الجنوب من شح المياه
تأتي المحافظات التي يقطنها أغلب أبناء الصابئة، في مقدمة الأماكن الأكثر تضررا من الشح المائي.
وتعاني -على الأخص- مدن البصرة وذي قار وميسان من غياب سياسات تضمن الأمن المائي، وفق ما يراه الدكتور حيدر حرز يوسف، عميد المعهد الدولي للطاقة المتجددة ودراسات البيئة، وعضو مجلس إدارة المجلس العربي للطاقة المستدامة.
ويحذر يوسف من أن عدم الاستعداد لمواجهة أزمات المياه، واتخاذ ما يلزم استجابة لأي طارئ، ينذر بتكرار حادثة انخفاض مناسب المياه في البصرة التي وقعت في العام 2018، مشيرا إلى أن العراق يتعرض لضغوطات في الجانب المائي بسبب سياسات دول الجوار فيما يخص الاطلاقات المائية المتذبذبة، وشح المياه الناتج عن الجفاف، والتغير المناخي، وارتفاع درجات الحرارة.
ويشير إلى أن الحلول تكمن في إنشاء سدود لتخزين المياه في مواسم الأمطار والإطلاقات العالية، بدلًا من تسربها إلى البحر، وعدم الاستفادة منها.
ويحث يوسف على توقيع اتفاقات واضحة مع الدول الجوار تلزمها بالحفاظ على الحصص المائية للعراق، لضمان سريان المياه في نهري دجلة والفرات.
وكشفت مصادر بيئية لـ”معدي التحقيق” أن نتائج التحليل المختبري في نهر الفرات بمدينة الناصرية أظهرت أن نسبة الأملاح عالية؛ فقد تجاوزت الـ 2400 جزء بالمليون، فضلا عن انخفاض نسبة الأوكسجين المذاب بالماء بنسبة 5.6، فيما تبلغ النسبة الطبيعية 10.
ويشير مدير شرطة البيئة في ذي قار العميد رشيد جاسم إلى أن انخفاض مناسيب نهر الفرات لم يكن السبب الوحيد في تلوث المياه، بل ترمي مستشفى بنت الهدى الحكومية مخلفات طبية سائلة في النهر، وهذه المخلفات تحمل مواد كيماوية وكلوريدات وفايروسات.
ما بين الجفاف والتلوث، يعيش أبناء ديانة الصابئة على ضفاف جداول المياه الضحلة، يجترون ماضِ كانت فيه المياه تكفي لممارسة طقوسهم الدينية، وتسد احتياجاتهم الأساسية، ويتوقعون مستقبلا يغيبون فيه عن المكان، مثلما غابت عنه المياه.
• انجز التقرير ضمن إطار مشروع «اصواتنا» المنفذ من قبل منظمة «انترنيوز»، وينشر لأول مرة في (المدى).